1. سورة الجمعة، الآية 2.
[ 152 ]
و بناءً على ذلك، فإنّ النّجاة من الضّلال المبين، و الطّهارة من الأخلاق الرّذيلة و الذنوب، تأتي بعد تلاوة الكتاب المجيد، و تعليم الكتاب والحكمة، و هو دليلٌ واضحٌ على وجود العلاقة و الإرتباط بين الإثنين.
و قد أوردنا في الجزء الأوّل من الدّورة الاُولى من نفحات القرآن الكريم، شواهد حيّةً و كثيرةً من الآيات القرآنية، حول علاقة العِلم والمعرفة بالفضائل الأخلاقيّة، و كذلك علاقة الجهل بالرذائل الأخلاقيّة، ونشير هنا بشكل مختصرٌ إلى عشرة نماذج منها:
1 ـ الجهل مصدرٌ للفساد و الإنحراف
نقرأ في الآية (55) من سورة الّنمل:
(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ).
فقرن هنا الجهل، بالإنحراف الجنسي والفساد الأخلاقي.
2 ـ الجهل سبب للإنفلات و التّحلل الجنسي
ورد في الآية (33) من سورة يوسف على لسان يوسف(عليه السلام)، في أنّ الجهل قرينٌ للتحلل الجنسي، فقال تعالى: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمّا يَدْعُونَني إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ ).
3 ـ الجهل أحد عوامل الحسد
ورد في الآية (89) من سورة يوسف(عليه السلام)، أنّه عندما جلس يوسف(عليه السلام) على عرش مصر، و تحدّث مع إخوانه الذين جاءوا من كنعان إلى مصر، لإستلام الحنطة منه، فقال:
(قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ).
أي أنّ جهلكم هو السبب في وقوعكم في أسر الحسد، الذي دفعكم إلى تعذيبه، و السّعي لقتله، و القائه في البئر.
[ 153 ]
4 ـ الجهل مصدر التّعصب و العناد و اللؤم
في الآية (26) من سورة الفتح، نرى أنّ تعصّب مشركي العرب في الجاهلية، كان بسبب جهلهم و ضلالهم:
(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ).
5 ـ علاقة الجهل بالذرائع
تاريخ الأنبياء مليءٌ بمظاهر التبرير، و خلق الذّرائع من قبل الأقوام السّالفة، في مواجهة أنبيائهم، وقد أشار القرآن الكريم مراراً إلى هذه الظاهرة، و مرًّة اُخرى يشير إلى علاقة الجهل بها، فنقرأ في الآية (118) من سورة البقرة:
(وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ).
فالتأكيد هنا على أنّ عدم العلم أو الجهل، هو الذي يتولى خلق الأرضيّة للتذرع، و تبيّن الآية الكريمة، العلاقة الوثيقة بين هذا الإنحراف الأخلاقي مع الجهل، وكما أثبتته التجارب أيضاً.
6 ـ علاقة سوء الظنّ مع الجهل
ورد في الآية (154) من سورة آل عمران، الكلام عن مُقاتلي اُحد:
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ).
ولا شك في أنّ سوء الظّن، هو من المفاسد الأخلاقيّة، و مصدر لكثير من الرذائل الفردية و الإجتماعيّة في حركة الواقع والحياة، وهذه الآية تبيّن علاقة الظّن بالجهل بصورة واضحة.
7 ـ الجهل مصدر لسوء الأدب
ورد في الآية (4) من سورة الحجرات، إشارةً للّذين لا يحترمون مقام النبوة، و قال إنّهم قوم لا يعقلون
[ 154 ]
(إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ).
فقد كانوا يزاحمون الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، في أوقات الرّاحة، و في بيوت أزواجه، و يُنادونه بأعلى أصواتهم قائلين: يا مُحَمِّد! يا مُحَمِّد! اُخرُجُ إلَينا.
فكان الرّسول(صلى الله عليه وآله) ينزعج كثيراً من سوء أدبهم وقلّة حيائهم، ولكن حياؤه يمنعه من البوح لهم، وبقي كذلك يتعامل معهم من موقع الحياء، حتى نزلت الآية، و نبّهتهم لضرورة التأدّب أمام الرسول(صلى الله عليه وآله)، و شرحت لهم كيف يتعاملون معه(صلى الله عليه وآله)، من موقع الأدب و الإحترام.
و في تعبير: «أكثرهم لا يعقلون»، إشارة لطيفة للسّبب الكامن وراء سوء تعاملهم، و قلّة أدبهم وجسارتهم، وهو في الغالب عبارةٌ عن هُبوط المستوى العلمي، و الوعي الثقافي لدى الأفراد.
8 ـ أصحاب النّار لا يفقهون
لا شك أنّ أصحاب النّار هم أصحاب الرذائل، و الملوّثين بألوان القبائح، وقد نوّه إليهم القرآن الكريم، و عرّفهم بالجُهّال، و عدم التّفقه، و يتّضح منه العلاقة بين الجهل و إرتكاب القبائح، فنقرأ في الآية (179) من سورة الأعراف:
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالاِْنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ ).
فقد بيّنت هذه الآية وآيات كثيرةٌ اُخرى، العلاقة الوطيدة بين الجهل، و بين أعمال السوء و إرتكاب الرذائل.
9 ـ الصبر من معطيات العلم
الآية (65) من سورة الأنفال، تنبّه المسلمين على أنّ الصّبر الذي يقوم على أساس الإيمان و المعرفة، بإمكانه أن يمنح المسلمين قوّة للوقوف بوجه الكفّار، الذين يفوقون المسلمين عدداً وعدّةً، تقول الآية:
[ 155 ]
(يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ ).
نعم فإنّ جهل الكافرين، هو السبب في عدم إستطاعتهم في الصّمود بوجه المؤمنين، و في مقابل ذلك فإنّ وعي المؤمنين هو السّبب في صمودهم، بحيث يُعادل كلّ واحد منهم عشرة أنفار من جيش الكفّار.
10 ـ النّفاق والفرقة ينشآن من الجهل
أشار القرآن الكريم في الآية (14) من سورة الحشر إلى يهود (بني النضير)، الذين عجزوا عن مُقاومة المسلمين، لأنّهم كانوا مُختلفين و مُتفرقين، رغم أنّ ظاهرهم يحكي الوحدة و الإتفاق، فقال:
(لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَة أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ).
وبناءً على ذلك فإنّ النّفاق والفرقة و التشتت، و غيرها من الرذايل الأخلاقيّة، الناشئة من جهلهم وعدم إطّلاعهم على حقائق الاُمور.
النتيجة:
تبيّن ممّا جاء في أجواء تلك العناوين العشرة السّابقة، التي وردت في سياق بعض الآيات القرآنية، علاقة الفضيلة بالعلم من جهة وعلاقة الرذيلة بالجهل، من جهة اُخرى، و قد ثبت لنا بالتجربة ومن خلال المشاهدة، أنّ أشخاصاً كانوا منحرفين بسبب جهلهم، وكانوا يرتكبون القبيح و يمارسون الرّذيلة في السّابق، ولكنّهم إستقاموا بعد أن وقفوا على خطئهم، و تنبّهوا إلى جهلهم، و أقلعوا عن فعل القبائح و الرذائل، أو قلّلوها إلى أدنى حدٍّ.
و الدّليل المنطقي لهذا الأمر واضح جدّاً، وذلك لأنّ حركة الإنسان نحو التّحلي بالصّفات والكمالات الإلهيّة، يحتاج إلى دافع و قصد، وأفضل الدّوافع هو العلم بفوائد الأعمال الصّالحة ومضار القبائح، وكذلك الإطّلاع و التعرّف على المبدأ و المعاد، و سلوكيات الأنبياء والأولياء
[ 156 ]
ومذاهبهم الأخلاقية، فكلّ ذلك بإمكانه أن يكون عاملاً مساعداً، يسوق الإنسان للصّلاح و الفلاح، و الإبتعاد عن الفساد والباطل في حركة الحياة والواقع.
و بالطّبع المراد من العلم هنا، ليس هو الفنون والعلوم الماديّة، لأنّه يوجد الكثير من العلماء في دائرة العلوم الدنيويّة، ولكنّهم فاسدين ومفسدين ويتحركون في خط الباطل و الإنحراف، ولكن المقصود هو العلم والاطّلاع على القيم الإنسانية، و التعاليم والمعارف الإلهيّة العالية، التي تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي و الأخلاقي، في مسيرته المعنوية.
علاقة «العلم» و «الأخلاق» في الأحاديث الإسلاميّة:
الأحاديث الإسلاميّة من جهتها، مشحونة بالعبارات الحكيمة الّتي تبيّن العلاقة الوثيقة بين العلم والمعرفة من جهة، وبين الفضائل الأخلاقيّة من جهة اُخرى، وكذلك علاقة الجهل بالرّذائل أيضاً. وهنا نستعرض بعضاً منها:
1 ـ بيّن الإمام علي(عليه السلام) علاقة المعرفة بالزهد، الذي يُعدّ من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة، فقال:
«ثَمَرةُ المَعرِفَةِ العُزُوفُ عَِنْ الدُّنيا»(1).
2 ـ وَ وَرد في حديث آخر عنه(عليه السلام)، قال:
«يَسيرُ المَعرِفةِ يُوجِبُ الزُّهدَ فِي الدُّنيا»(2).
و المعرفة هنا يمكن أن تكون إشارةً لمعرفة الباري تعالى، فكلّ شيء في مقابل ذاته المقدّسة لا قيمة له، فما قيمة القَطرة بالنسبة للبحر، و نفس هذا المعنى يمثّل أحد أسباب الزهد في الدنيا وزبرجها، أو هو إشارةٌ لعدم ثبات الحياة في الدّنيا، و فناء الأقوام السّابقة، و هذا المعنى أيضاً يحثّ الإنسان على التّحرك في سلوكه و أفكاره، من موقع الزّهد، و يوجّهه نحو الآخرة و النّعيم المقيم، أو هو إشارةٌ لجميع ما ذُكر آنفاً.
1. غرر الحكم.
2. المصدر السابق.
[ 157 ]
3 ـ وَ وَرد عنه(عليه السلام) في حديث آخر، بيان علاقة الغِنى الذّاتي، و ترك الحرص على الاُمور الدنيوية، بالعلم والمعرفة، فقال:
«مَنْ سَكَنَ قلْبَهُ العِلْمُ بِاللهِ سُبحانَهُ سَكَنَهُ الغِنى عَنْ الخَلْقِ»(1).
و من الواضح أنّ الذي يعيش المعرفة، بالصّفات الجماليّة و الجلاليّة للباري تعالى، و يرى أنّ العالم كلّه، هو إنعكاسةٌ أو و مضةٌ، من شمس ذاته الأزليّة الغنيّة بالذات، فيتوكل عليه فقط، و يرى نفسه غنيّاً عن الناس أجمعين، في إطار هذا التوكّل والإعتماد المطلق على الله تعالى.
4 ـ و جاء في حديث عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، حول معرفة الله وعلاقتها بحفظ اللّسان من الكلام البذيء، و البطن من الحرام، فقال(صلى الله عليه وآله):
«مَنْ عَرَفَ اللهَ وَعَظَمَتَهُ مَنَعَ فاهُ مِنْ الكَلامِ وَبَطْنَهُ مِنَ الحَرامِ»(2).
5 ـ وَرَد عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، علاقة المعرفة بالخوف منه تبارك و تعالى، الذي هو بدوره مصدر لكلّ أنواع الفضائل، فقال:
«مَنْ عَرَفَ اللهَ خافَ اللهَ وَمَنْ خافَ اللهَ سَخَتَ نَفْسَهُ عَنِ الدُّنيا»(3).
6 ـ بالنّسبة للعفو وقبول العذر من الناس، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «أَعْرَفُ النَّاسِ بِاللهِ أَعْذَرَهُم لِلنّاسِ و إِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُم عُذراً»(4). (و من البديهي أنّ هذا الحديث ناظرٌ إلى المسائل الشخصيّة، لا المسائل الإجتماعيّة).
7 ـ حول معرفة الله و ترك التكبّر، قال(عليه السلام):
«وَ إِنَّهُ لا يَنبَغِي لَمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أنْ يَتَعَظَّمُ»(5).
8 ـ حول العلم والعمل، قال(عليه السلام):
«لَن يُزَّكى العَمَلُ حتّى يُقارِنَهُ العِلْمُ»(6).
1. غرر الحكم.
2. اُصول الكافي، ج2، ص237.
3. المصدر السابق، ص68، ح4.
4. غُرر الحِكم.
5. نهج البلاغة، الخطبة 147.
6. غُرر الحِكم.
[ 158 ]
ومن المعلوم أنّ طهارة العمل لا تنفكّ عن طهارة الأخلاق.
9 ـ و نقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، حول هذا الموضوع:
«بِالعِلمِ يُطاعُ اللهُ وَيُعبَدُ وَبالعِلمِ يُعْرَفُ اللهُ وَيُوَحَّدُ وَبِهِ تُوصَلُ الأَرحامُ وَيُعْرَفُ الحَلالُ وَ الحَرامُ وَ العِلمُ إِمامُ العَمَلِ».(1)
ففي هذا الحديث، إعتبر كثيراً من السّلوكيّات الأخلاقيّة الإيجابيّة، هي ثمرةٌ من ثمار العلم و المعرفة.
10 ـ ورد نفس هذا المعنى بصراحة أقوى عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال:
«ثَمَرَةُ العَقلِ مُداراةُ النَّاسِ»(2).
و في مقابل الأحاديث التي تتحدث عن العلم و المعرفة، و علاقتها بالفضائل الأخلاقيّة توجد أحاديث شريفة اُخرى، وردت في المصادر الإسلاميّة حول علاقة الجهل بالرذائل، و هي تأكيد آخر لموضوع بحثنا هذا ومنها:
1 ـ في حديث عن علي(عليه السلام) قال: «الجَهلُ أَصلُ كُلِّ شرٍّ»(3).
2 ـ و ورد أيضاً عنه(عليه السلام): «الحِرصُ وَالشَّرَهُ والبُخلُ نَتِيجَةُ الجَهلِ»(4).
لأنّ الحريص أو الطّماع، غالباً ما يتحرك في طلب اُمور زائدة عن إحتياجه، و في الحقيقة فإنّ ولعه بالمال و الثّروة و المواهب الماديّة، ولعٌ غير منطقي و غير عقلائي، وهكذا حال البخيل أيضاً فبِبُخله يحرص، و يحافظ على أشياء لن يستفيد منها في حياته، بل يتركها لغيره بعد موته.
3 ـ و نقل عنه(عليه السلام) في تعبير جميل:
«الجَاهِلُ صَخْرَةٌ لا يَنْفَجِرُ مائُها! وَشَجَرَةٌ لا يَخْضَرُّ عُودُهـا! وَأَرْضٌ لا يَظهَرُ عُشْبُها!»(5).
1. تحف العقول، ص21.
2. غُرر الحِكم.
3. المصدر السابق.
4. المصدر السابق.
5. المصدر السابق.
[ 159 ]
4 ـ وَ وَرد عنه(عليه السلام) أيضاً، في إشارة إلى أنّ الجاهل يعيش دائماً في حالة إفراط أو تفريط، فقال:
«لا تَرى الجَاهِلَ إلاّ مُفْرِطاً أو مُفَرِّطاً»(1).
فطبقاً للرأي المعروف عن علماء الأخلاق، أنّ الفضائل الأخلاقيّة هي الحد الأوسط بين الإفراط و التفريط، الذي ينتهي إلى السّقوط في الرذائل، ويُستفاد من الحديث أعلاه، أنّ العلاقة بين الجهل من جهة و الرذائل الأخلاقيّة، من جهة اُخرى، هي علاقةٌ و طيدةٌ جدّاً.
5 ـ يقول كثير من علماء الأخلاق، أنّ الخُطوة الاُولى لإصلاح الأخلاق، و تهذيب النّفس، هي المحافظة على اللّسان و الإهتمام بإصلاحه، وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة، تأكيد على علاقة الجهل ببذاءة اللّسان، فنقرأ في حديث عن الإمام الهادي(عليه السلام): «الجَاهِلُ أَسِيرُ لِسانِهِ»(2).
و خُلاصة القول، أنّ الرّوايات الإسلاميّة الكثيرة أكدت على علاقة العلم بالأخلاق الحسنة، و الجهل بالأخلاق السيّئة، و كلّها تؤيد هذه الحقيقة، و هي أنّ إحدى الطّرق المؤثرة لتهذيب النّفوس، هو الصّعود بالمستوى العلمي و المعرفي لِلأفراد، و معرفة المبدأ و المعاد، والعلم بمعطيات الفضائل و الرذائل الأخلاقية، في واقع الإنسان والمجتمع.
هذا الصعود بالمستوى العلمي للأفراد على نحوين:
النحو الأول: زيادة المعرفة بسلبيات السّلوك المنحرف، و الإطّلاع على أضرار الرذائل الأخلاقية بالنسبة للفرد والمجتمع، فمثلاً عندما يُحيط الإنسان علماً، بأضرار المواد المخدّرة أو المشروبات الكحولية، وأنّ أضرارها لا يمكن اصلاحها على المستوى القريب، فذلك العلم سيهيّىء الأرضيّة في روح الإنسان، للإقلاع عن تلك السلوكيّات المضرّة، و بناءً عليه فكما أنّه يجب تعريف النّاس بمضرّات المخدرات، و المشروبات الكحولية، وعلينا تعريف النّاس بطرق مُحاربة الرّذائل و إحصاء عُيوبها، و أساليب تنمية الفضائل، و إستجلاء محاسنها، ورغم أنّ ذلك لا يُمثّل العلّة التّامة لإحداث حالة التغيير، و التّحول في الإنسان، ولكّنه بلا شك يمهّد ويهيّىء الأرضيّة المساعدة لذلك.
1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الرقم 70.
2. بحار الانوار، ج75، ص368.
[ 160 ]
القسم الثاني: الصّعود بالمستوى العلمي بصورة عامّة، فعندما يطّلع الإنسان على المعارف الإلهيّة، ومنها المبدأ و المعاد، و أقوال الأنبياء و الأولياء، و ما شابه ذلك، فإنّ الإنسان سيجد في نفسه ميلاً نحو الفضائل، و رغبةً في الإبتعاد عن الرّذائل.
و بعبارة اُخرى: إنّ تدنّي المستوى العلمي بالاُمور العقائدية، كفيل بخلق محيط مناسب لنمو الرذائل، والعكس صحيحٌ فإنّ زيادة المعرفة تبعث في روح الإنسان الرّغبة و الشّوق نحو ممارسة الفضيلة.
5 ـ دور الثّقافة الإجتماعيّة في تربية الفضائل والرذائل:
الثّقافة عبارة عن مجموعة من الاُمور، التي تبني فكر وروح الإنسان، و تمنحه الدّافع الأصلي للتحرك نحو المسائل المختلفة.
وعلى مستوى المِصداق، تمثّل الثّقافة مجموعةً من العقائد، و التاريخ و الأدب و الفن، و الآداب و الرّسوم لمجتمع ما.
و قد تكلمنا في السّابق عن بعض معطيات البيئة و المحيط و المعرفة، و دورها في إيجاد الفضائل و الرّذائل، و نتطرّق الآن لباقي أقسام الثّقافة الإجتماعيّة، و دورها في تحكيم و تقوية عناصر الخير، ودعامات الفضائل في واقع النّفس، أو تعميق عناصر الرّذيلة فيها.
وأحد هذه الاُمور، العادات و التقاليد و السّنن لقوم من الأقوام، فإذا إستوحت مقوّماتها من الفضائل، فستكون مؤثّرة في خلق الأجواء المناسبة لتربية و تهذيب النّفوس، وأمّا لو إسترفدت قوتها وحياتها من الرّذائل الأخلاقيّة، فستكون البيئة مهيّئة لتقبل أنواع القبائح أيضاً.
وَ وَرد في القرآن الكريم إشاراتٌ واضحةٌ في هذا المجال، تبيّن كيفيّة إنحراف الأقوام السّابقة، بسبب الثّقافة المنحرفة والتقاليد والأعراف المنحطة لديهم، و الّتي أدّت بهم إلى السّقوط في
[ 161 ]
منزلقات الخطيئة، و الإنحدار في هاوية الرذائل الأخلاقية، ومنها:
1 ـ (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )(1).
2 ـ (وَإِذَا قِيلَ لَهُم اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ )(2).
3 ـ (إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَها عَابِدِينَ )(3).
4 ـ (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ )(4).
5 ـ (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ )(5).
6 ـ (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُْنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُون أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )(6).
7 ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ )(7).
تفسير و إستنتاج:
ما نستوحيه من الآيات الكريمة محلّ البحث، هو أنّ ثقافة الأقوام والاُمم السّالفة، لها دورٌ
1. سورة الأعراف، الآية 28.
2. سورة البقرة، الآية 170.
3. سورة الأنبياء، الآية 52 و 53.
4. سورة الزخرف، الآية 23.
5. سورة الأعراف، الآية 82.
6. سورة النّحل، الآية 58 و 59.
7. سورة الفتح، الآية 29.
[ 162 ]
فاعل في تربية و نمو الصفات الأخلاقيّة، أيّاً كانت، فإذا كانت الثّقافة السّائدة بمستوى مرموق، فمن شأنها أن تفرز لنا أفراداً ذوي صفات حميدة و أخلاق عالية، والعكس صحيح، والآيات الكريمة السّابقة الذّكر، تُشير إلى المعنيين أعلاه.
ففي «الآية الاُولى»: نقرأ قول الأقوام السّالفة، الّذين يعيشون الإنحراف، و يمارسون الخطيئة من موقع الوضوح في الرؤية، فإذا سُئلوا عن الدّافع لمثل هذه التصرفات الشائنة، و السلوكيات المنحرفة، قالوا بلغة التّبرير: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا... ).
ولم يكتفوا بذلك بل تعدّوا الحدود، و قالوا: (وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا ).
بناءً على ذلك، فإنّهم إتخذوا سُنّة الّذين مَضوا من قبلهم دليلاً على حسن أعمالهم، ولم يخجلوا من أفعالهم القبيحة، على مستوى النّدم و الإحساس بالمسؤوليّة، بل كانوا يعطوها الصّبغة الشرعيّة أيضاً.
«الآية الثّانية»: طرحت نفس المعنى ولكن بشكل آخر، فعندما كان الأنبياء يدعون أقوامهم إلى الشريعة الإلهيّة النّازلة من عند الله تعالى، كانوا يتحرّكون في المقابل من موقع العناد و التكبّر، و يقولون بِغرور: (سنتّبع سنّة آبائنا).